تاريخياً، كانت قيمة المال والثقة فيه مرتبطة بالأصول المادية الملموسة، سواء كانت الذهب أو الفضة أو العملات الورقية التي تصدرها الحكومات. وقد شكلت هذه الأصول المادية الأساس الذي يضمن قيمة المال وثباته. ومع ذلك، فقد شهدت السنوات الأخيرة تحولاً جذرياً في علاقتنا بالمال، حيث بدأت العملات الرقمية في اكتساب أهمية متزايدة.
لقد مهدت المعاملات الرقمية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت والمدفوعات الإلكترونية الطريق لهذا التحول، ولكن بروز العملات الرقمية المركزية (CBDCs) والعملات الرقمية قد يمثل المرحلة الأكثر تحولاً في هذه التطور. فالعملات الرقمية، سواء كانت مركزية أو لامركزية، تُعيد تعريف الطريقة التي نتعامل بها مع المال، حيث تتيح لنا إجراء المعاملات المالية بشكل أسرع وأكثر كفاءة وأماناً.
وتُعد الـ CBDCs والعملات الرقمية فصولاً جديدة في قصة المال، حيث تقدم إمكانات جديدة وفرصاً جديدة. فقد أظهرت الـ CBDCs إمكانية تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة المدفوعات، بينما أظهرت العملات الرقمية إمكانية تحدي الهيمنة المالية التقليدية.
دفعة حيوية للنمو الاقتصادي والشمول المالي في الشرق الأوسط
ُظهر دراسات حديثة أن ما يقرب من ثلثي دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تُجري أبحاثًا حول إمكانية اعتماد عملة رقمية صادرة عن المصرف المركزي (CBDC) كوسيلة لتعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة المدفوعات عبر الحدود.
ومع ذلك، يتطلب اعتمادها دراسة متأنية، إذ، يجب على الدول في هذه المناطق، التي تمتد عبر مجموعة متنوعة من الاقتصادات من المغرب ومصر إلى باكستان وكازاخستان، أن تقيّم مجموعة ظروفها الفريدة، بما في ذلك حجم اقتصادها، ومستوى التطور التكنولوجي، والبنية التحتية المالية الحالية.
وتعتبر العديد من الدول الـ 19 التي تستكشف حاليًا اعتماد العملة الرقمية المركزية في مرحلة البحث. وانتقلت البحرين وجورجيا والإمارات العربية المتحدة إلى مرحلة “إثبات المفهوم” الأكثر تقدماً. كما تعد كازاخستان هي الأكثر تقدمًا بعد إطلاق برنامجين تجريبيين للتنغي الرقمي.
يمكن أن تساعد العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي في تحسين كفاءة خدمات الدفع عبر الحدود. ويبدو أن هذا الأمر يمثل أولوية مهمة لمصدري النفط ودول مجلس التعاون الخليجي، وهي البحرين والكويت وعُمان وقطر والإمارات العربية المتحدة، وذلك لأن المدفوعات عبر الحدود تميل إلى مواجهة تحديات مثل تنوع صيغ البيانات وقواعد التشغيل عبر المناطق والفحوصات التوافقية المعقدة. ويمكن أن تساهم الـ CBDCs التي تعالج هذه الكفاءات في خفض تكاليف المعاملات بشكل كبير.
وقد قامت بعض الدول بالفعل بتقديم منصات تكنولوجية عبر الحدود لمعالجة هذه القضايا وتعزيز المدفوعات الرقمية بين الدول. ومن الأمثلة على ذلك نظام المدفوعات عبر الحدود “بونا”، الذي أنشأه صندوق النقد العربي في عام 2020.
كما يمكن أن تعزز الـ CBDCs الشمول المالي من خلال تشجيع المنافسة في سوق المدفوعات والسماح بتسوية المعاملات بشكل أكثر مباشرة وبواسطة وسيط أقل، مما يؤدي إلى خفض تكلفة الخدمات المالية وجعلها أكثر سهولة في الوصول. وعلى عكس البنوك التجارية، يمكن للبنوك المركزية أيضًا المساعدة في خفض التكاليف حيث لا تهتم بالربح. وبالمثل، فإن المنافسة المتزايدة في سوق المدفوعات نتيجة الـ CBDC يمكن أن تشجع أيضًا على تحديث المنصات التكنولوجية وكفاءة خدمات الدفع، مما يساعد في وصول الخدمات المالية إلى المزيد من الناس. وتُظهر الدول في القوقاز وآسيا الوسطى وبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المستوردة للنفط والدول منخفضة الدخل اهتمامًا خاصًا بهذه الفائدة المحتملة.
ومع ذلك، بدون معالجة بعض الحواجز التي تعيق الاستخدام المتزايد للحسابات الرقمية والمدفوعات، مثل ضعف المعرفة الرقمية والمالية، وعدم وجود هوية، وعدم الثقة في المؤسسات المالية، وانخفاض الثروة، قد يكون تأثير اعتماد الـ CBDC محدودًا.
ماذا عن المخاطر؟
تُشكل العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي فرصة كبيرة لتحسين كفاءة وشمول النظام المالي، إلا أنها تحمل أيضًا بعض المخاطر التي يجب أخذها في الاعتبار. من بين هذه المخاطر، يمكن أن تؤدي CBDCs إلى تآكل الودائع المصرفية، حيث قد يفضل الناس الاحتفاظ بأموالهم في CBDCs بدلاً من الودائع المصرفية التقليدية. وهذا قد يضعف قدرة البنوك على الإقراض وتوفير التمويل الاقتصادي، مما يؤثر على النشاط الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي إلى زيادة المخاطر السيبرانية، حيث يمكن استهدافها من قبل هجمات إلكترونية. وهذا قد يؤدي إلى فقدان الأموال أو تعطيل الخدمات المالية. كما أن الاعتماد الكبير على العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي قد يؤدي إلى تركز السلطة في أيدي الحكومات أو البنوك المركزية، مما قد يقلل من الخصوصية المالية للأفراد.
علاوة على ذلك، قد تواجه العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي تحديات في التكامل مع الأنظمة المالية الحالية، مما قد يؤدي إلى صعوبات في استخدامها في المعاملات اليومية. كما قد تختلف السياسات التنظيمية المتعلقة بالعملات الرقمية المركزية بين الدول، مما قد يؤدي إلى تعقيدات في المعاملات الدولية.
أخيرًا، قد تؤثر العملات الرقمية المركزية على السياسة النقدية، حيث يمكن أن تؤثر على أسعار الفائدة والتضخم. كما قد تحتاج البنوك المركزية إلى تطوير أدوات جديدة للسياسة النقدية لتتمكن من إدارة العملات الرقمية المركزية بشكل فعال.
هل الخصوصية بخطر؟
يمثل تبني العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي تحولاً جذرياً في النظام المالي العالمي، حيث ينطوي على درجة عالية من سيطرة الحكومات على المعاملات المالية للمواطنين. تثير هذه السيطرة مخاوف جدية بشأن الخصوصية، حيث يمكن للحكومات من خلال تتبع كل معاملة جمع كميات هائلة من البيانات الدقيقة حول سلوكيات الأفراد، بدءًا من أنماط الإنفاق وصولاً إلى الأماكن التي يترددون عليها. هذه البيانات يمكن أن تستخدم لتشكيل صورة مفصلة للغاية عن حياة الأفراد، مما يهدد حقهم في الخصوصية. في حين أن بعض الدول قد تتمكن من حماية خصوصية مواطنيها من خلال تشريعات صارمة لحماية البيانات، إلا أن هذه الحماية قد تكون محدودة في مناطق أخرى، خاصة في الدول التي لا تتمتع بنفس المستوى من احترام سيادة القانون وحماية الخصوصية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تسريب هذه البيانات أو استخدامها بشكل غير مشروع يمكن أن يؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الأفراد.
الريادة الإماراتية في مجال الـ CBDC
وفي هذا السياق، لا بد من تسليط الضوء على أهمية ودور الإمارات العربية المتحدة في ريادة كل ما هو جديد في عالم التكنولوجيا عامةً، والعملات الرقمية خاصةً، وذلك من خلال سنّ القوانين والأطر التنظيمية ودعم البحث والتطوير في هذا المجال.
وفيما يتعلّق بمبادرة الإمارات في مجال العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المكرزي أو الـ CBDC، فوقّع المصرف المركزي الإماراتي في مارس 2023، اتفاقية مع شركتي “G42 Cloud” و “R3” لبدء تنفيذ استراتيجية العملة الرقمية للمصرف المركزي، إحدى المبادرات التسع لبرنامج تحول البنية التحتية المالية في الدولة. وتم اختيار “G42 Cloud” لتقديم خدمات البنية التحتية للمشروع، في حين ستقدم “R3” الخدمات التكنولوجية.
وتأتي هذه الشراكات بعد نجاح مبادرات العملات الرقمية للبنوك المركزية، من ضمنها مشروع “عابر” مع البنك المركزي السعودي خلال 2020، والتي أكدت نتائجه إمكانية استخدام العملة الرقمية الصادرة عن البنكين المركزيين لتسوية المدفوعات عبر الحدود، كما حصل المشروع على جائزة “التأثير العالمي 2021” الممنوحة من قبل مجلة “سنترال بانكينج. إضافة إلى التشغيل التجريبي لمشروع “الجسر” للعملات الرقمية للبنوك المركزية العابرة للحدود بالتعاون مع سلطة النقد في هونج كونج وبنك تايلاند ومعهد العملات الرقمية التابع لبنك الشعب الصيني وبنك التسويات الدولية في 2022، والذي تم من خلاله إنجاز معاملات مالية ذات قيمة حقيقية. وساهمت هذه المبادرات في جهوزية المصرف المركزي لتنفيذ استراتيجيته للعملة الرقمية الخاصة به.
هذا وأجرى المركزي الإماراتي أوَّل تحويل للدرهم الرقمي عبر الحدود باستخدام منصة الجسر “إم بريدج” (mBridge) للعملة الرقمية للمصرف المركزي في 29 يناير.
أُرسل تحويل العملة الرقمية للبنك المركزي عبر الحدود بقيمة 50 مليون درهم (13.6 مليون دولار) إلى الصين باستخدام منصة mBridge متعدِّدة العملات الرقمية للبنك المركزي، وفقاً لغلف نيوز. إذ أجرى رئيس مجلس إدارة مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي، سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، تحويلَ العملة الرقمية للبنك المركزي بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيس البنك المركزي.
وفقاً لتقرير بنك التسويات الدولية، يتطلَّع نحو 90٪ من البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم إلى اعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي. من بين هذه الدول، أطلقت 11 دولة عملةً رقمية للبنك المركزي، في حين أنَّ 15 دولة في المرحلة التجريبية، و26 دولة في مرحلة التطوير، وفقاً لمتتبِّع العملة الرقمية للبنك المركزي من المجلس الأطلسي.
الـ CBDC والعملات المستقرة: تكامل أم استبدال؟
تتشكل ملامح النظام المالي الرقمي الجديد بفعل صعود العملات المستقرة والعملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي، ولكل منهما دوره الفريد. تُعتبر العملات المستقرة، التي تصدرها عادةً شركات خاصة وترتبط بقيمة أصول ثابتة، حجر الزاوية في العديد من الأنظمة المالية اللامركزية. فهي توفر سيولة عالية وسهولة في التحويلات، مما يشجع على الابتكار في مجال التمويل اللامركزي (DeFi).
من جانب آخر، تمثل CBDCs، التي تصدرها البنوك المركزية، الجيل القادم من النقود. فهي تهدف إلى تعزيز كفاءة السياسة النقدية، وتوسيع نطاق الشمول المالي، وتوفير وسيلة دفع آمنة وموثوقة في العصر الرقمي. تتمتع CBDCs بميزة كونها مدعومة من الدولة، مما يمنحها ثقة أكبر من الجمهور.
إذاً، تخدم العملات المستقرة والعملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي أغراضًا مختلفة في النظام المالي الرقمي، ومن غير المحتمل أن تؤدي العملات المستقرة إلى “قتل” الـ CBDCs.
فعلى الرغم من الاختلافات بينهما، يمكن للعملتين المستقرة و CBDCs أن تتكامل بشكل مثمر. يمكن للعملات المستقرة أن تعمل كوسيلة لتسهيل التحويلات بين العملات المختلفة، بينما يمكن لـ CBDCs أن تلعب دورًا رئيسيًا في الدفع اليومي. كما يمكن للعملات المستقرة أن توفر مرونة أكبر في تصميم المنتجات المالية، بينما يمكن لـ CBDCs أن تضمن الاستقرار المالي والنظامي.
مقارنة بين بيتكوين والعملات الرقمية المركزية
تختلف العملات الرقمية المركزية عن العملات الرقمية التقليدية مثل بيتكوين والعملات المستقرة المرتبطة بالعملات التقليدية في عدة جوانب رئيسية.
أولاً، تُصدر العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي من قبل البنوك المركزية وتخضع لإشرافها، بينما يتم إصدار العملات الرقمية التقليدية بواسطة شبكات ومنصات لامركزية. وهذا يعني أن العملات الرقمية المركزية تتمتع بدعم وشرعية أكبر من الحكومات، مما قد يجعلها أكثر موثوقية وقبولاً.
ثانياً، تُستخدم العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي بشكل أساسي كوسيلة للدفع اليومي، بينما يمكن استخدام العملات الرقمية التقليدية أيضًا كوسيلة للاستثمار والتداول. وهذا يعني أن العملات الرقمية المركزية قد تكون أكثر فائدة للناس في المعاملات اليومية، بينما قد تكون العملات الرقمية التقليدية أكثر جاذبية للمستثمرين والمضاربين.
ثالثاً، تتميز العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي بمستوى أعلى من الأمان والخصوصية، حيث يتم إصدارها وتداولها على شبكات البنوك المركزية، والتي تتمتع بإجراءات أمنية صارمة. بينما قد تكون العملات الرقمية التقليدية أكثر عرضة للاختراقات الأمنية والهجمات السيبرانية.
رابعاً، تُستخدم العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي في الغالب في البلدان المتقدمة، بينما يمكن استخدام العملات الرقمية التقليدية في أي بلد. وهذا يعني أن العملات الرقمية المركزية قد تكون أكثر فائدة في البلدان التي لديها بنية تحتية مالية متطورة، بينما قد تكون العملات الرقمية التقليدية أكثر فائدة في البلدان التي لديها بنية تحتية مالية أقل تطوراً.
خامساً، تُعتبر العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي أداة مهمة للشمول المالي، حيث يمكن أن تساعد في توفير الوصول إلى الخدمات المالية للناس الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية. بينما قد تكون العملات الرقمية التقليدية أقل فعالية في هذا الصدد.
في الخلاصة، تختلف العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي عن العملات الرقمية التقليدية في طريقة عملها والغرض منها. بينما تهدف العملات الرقمية المركزية إلى تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة المدفوعات، فإنها تواجه أيضًا بعض التحديات مثل المخاطر الأمنية والاعتماد المحدود.
أخيراً، لا يقتصر الشمول المالي على مجرد امتلاك حساب مصرفي، بل يتعلق بضمان الوصول العادل إلى النظام المالي العالمي. وفي الوقت الذي يواجه العالم تحولاً في المال، تقدم كل من العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي والبيتكوين رؤى جذابة للمستقبل. فبينما تقدم العملات الرقمية المركزية إمكانات تحسين الكفاءة في النظام المالي التقليدي، تقدم بيتكوين بديلاً مفتوحاً عالمياً غير قابل للتغيير لامركزي يمكن أن يعيد تشكيل التمويل العالمي مع فرص لتحقيق الديمقراطية الحقيقية للوصول المالي.
مع ذلك، يطرح هذا التحول العديد من التساؤلات حول مستقبل المال. هل ستتمكن العملات الرقمية المركزية من تحقيق أهدافها في تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة المدفوعات؟ وكيف يمكن للعملات الرقمية مثل بيتكوين أن تساهم في إعادة تشكيل النظام المالي العالمي؟
إن هذه الأسئلة وغيرها الكثير تفتح الباب للنقاش والتحليل حول مستقبل المال في العصر الرقمي، والأيام قد تجيبنا على أسئلتنا هذه!